alsarrad

مدونة 'السَرَّاد' الأدبية لنشر قصص قصيرة وروايات عربية أصلية. انغمس في عوالم من الخيال، وتابع إبداعات 'السَرَّاد' المتجددة.

جديد المدونة

Post Top Ad

Your Ad Spot

الأحد، 26 أكتوبر 2025

في ظلّ أخي

في ظلّ أخي


قصة إنسانية أنيقة تكشف الاعتمادية العاطفية وتُظهر التعافي خطوة بخطوة مع دراما نفسية وتحولات مقنعة



كانت ياسمين تعرف طريق بيت سارة كما تعرف الخطوط الأولى في وجهها عندما تقف أمام المرآة. رائحة البن الثقيلة، ضحكة سارة التي ما زالت تُشبه ضحكة فتاة في السابعة عشرة، إطار خشبي قديم يُحيط باللوحة التي أهدتها لها يوم تخرّجتا: بورتريه لفتاتين تبتسمان وكأنّ الشمس تُطل من بين أسنانهما.


في ذلك المساء، دخل سالم، أخو سارة، وهو ينفض عن سترته قطرات المطر ويقول بخفة مدروسة: "أنتِ دائمًا مع سارة؛ متى ستعطيني بعض وقتك؟" ضحكت سارة. ضحكت ياسمين أيضاً، لكن الجملة عَلِقت في صدرها كتعويذة. منذ ثلاث سنوات، تحوّل صوت سالم إلى ساعة تُدير نهارها. رسائله تخطط خطواتها، نظرته تُقيّم ملابسها، رأيه يسبق رأيها حتى في لوحاتها: "هذا اللون ثقيل... هذا الإطار لا يليق... الفن جميل، لكن الحياة أهم." كانت تصفق لما يقول كمن يُطفئ حريقًا صغيرًا في داخله مخافة أن يمتد.


أهملت منحة فنية في الخارج لأنه قال: "مكانك معنا، والأسرة أولى." أجّلت مشروع معرضها لأنه احتاجها في ترتيب خطوبة قريبة له. تعلّمت انتظار إشعاراته أكثر من انتظار الضوء على لوحتها. كانت تخلط بين الحب والرضا، وبين الحنان والإذعان. وفي كل مرة تشعر فيها بالاختناق، كانت تُمسك بأنفاسها وتقول لنفسها: "هذا ما يفعله العاشقون: يُضحّون."


في حفلة عائلية، اقتربت منها قريبة لسالم ذات عينين لامعتين: "سمعتُ عنكِ كثيرًا. متى معرضكِ؟" التفتت ياسمين تلقائيًا نحو سالم، فقال مبتسمًا واليد على كتفها: "مشغولة مع أمي، وتفعل ذلك بإتقان. المعارض لاحقًا." تظاهر الجميع بأنهم لم يلاحظوا الاحمرار الذي صعد إلى وجه ياسمين. لاحقًا تلك الليلة، عندما همست لسالم بفكرة عرض صغير في مقهى الحي، قاطعها بابتسامته المهذبة: "حبيبتي، الهوايات يسهل أن تُلهينا عن ما هو أهم. لدينا أسبوع صعب قبل الخطوبة. كوني معي."


عادت إلى غرفتها. في الزاوية، تقف لوحاتها مغطاة بطبقة غبار تشبه طبقة صمتٍ كثيف. مررت بإصبعها على الغبار وكتبت "أنا"، ثم مسحت الكلمة بخوف من أن يراها فيها أحد.


في اليوم التالي، ذهبت إلى سارة. دخلت غرفة المعيشة فتوقفت فجأة: لوحتها القديمة تغيّر إطارها؛ الإطار الخشبي الدافئ صار ذهبياً لامعًا. قالت سارة وهي تُخفي ارتباكًا: "سالم رأى أن القديم لا يليق بديكور البيت الجديد." اقتربت ياسمين تتحسس الحافة. لمحت أن توقيعها الصغير في أسفل اللوحة يكاد يختفي تحت سماكة الإطار. همست: "حتى اسمي صار خلف الإطار."


ضحكت سارة بحزن: "سنُعيده كما كان." لكن شيئًا داخليًا في ياسمين كان قد تحرك بالفعل. لم يعد الأمر مجرد إطار؛ صار استعارة لحياتها التي تنزلق إلى أيدٍ تُشذّبها لتناسب ستائر لا تخصّها.


في تلك الليلة، فتحت بريدها بلا سبب واضح، فوجدت رسالة من المؤسسة التي عرضت عليها المنحة قبل عامين: "أُتيح مقعد جديد. إن رغبتِ، يرجى التأكيد خلال عشرة أيام." قرأت السطور وكأنها تقرأ اسمها لأول مرة. كتبت لسالم رسالة لتخبره، ثم مسحتها قبل الضغط على "إرسال". نامت على وسادة ثقيلة بحلم غريب: مرآة تعكس إطارًا بلا لوحة.


بعد أيام، سلّمها سالم جهازًا لوحيًا: "ستصممين بطاقات الخطوبة. من غير اللون الداكن الذي تحبينه. نريد شيئًا يُشبهنا." ثم أخرج علبة مخملية صغيرة. خاتم بسيط جميل، ومعه ورقة مطوية: "ترتيبات: لا سفر في السنتين الأوليين، لا مشاريع فردية كبيرة، نُعلن قريبًا، تفاصيل الضيوف عندي." قرأت الورقة أكثر من الخاتم. قالت بهدوءٍ يقف على حافة الانفجار: "هذه شروط." ابتسم: "تنظيم، يا ياسمين. الحب يحتاج وضوحًا." شعرت أن الهواء صار سميكًا. وضعت العلبة على الطاولة برفق مَن يعيد حجرًا ثقيلًا إلى مكانه.


ليلة المواجهة التي لم تخطط لها، أغلقت باب غرفتها وأطفأت هاتفها. جلست أمام قماش أبيض وبدأت ترسم. لم ترسم صورتَه. رسمت عينيها هي، بؤبؤين أسودين يتّسعان ثم يضيقان مثل رئتين. كل سَطْرة كانت كأنها استعادة نَفَسٍ. حين انتهت، كتبت رسالة قصيرة: "أحتاج وقتًا لأرسم مسار حياتي بنفسي." وضعت الهاتف جانبًا كما يُوضع سكين في درج بعيد.


جاءت سارة صباحًا بلا موعد. جلست على طرف الكرسي وقالت بصوت يخونها: "أنا مدينة لك باعتراف. منذ البداية أقنعتُ سالم أن يبقيكِ قريبة. كنتُ أخاف أن تسافري. ظننتُ أن القرب يحميكِ... ثم شاهدتُكِ تذبُلين، ولم أوقف ذلك. سامحيني." نظرت ياسمين إليها طويلًا، ثم ابتسمت ابتسامة مؤلمة: "لن أكرهك. لكنّي سأكره الإطار الذي وضعنا نفسي فيه." فتحت سارة حقيبتها وأخرجت الإطار الخشبي القديم: "وجدته. أعيده إليكِ."


في المساء، ذهبت ياسمين مع سارة إلى جلسة دعم نفسي جماعي في مركز صغير لا تُضيئه إلا مصابيح صفراء هادئة. تحدّثت امرأة عن زواجها الذي صار "مشروع إنقاذ" لا شراكة. قال رجل بصوت متعب: "كنتُ أتسول الحب بعمليّات إنقاذ لا تنتهي." حين جاء دور ياسمين، قالت: "أحب، لكنني أفقد نفسي وأنا أحب." سكتت. ثم أضافت: "أريد أن أتعلم التمييز بين الحنان والاستسلام." دونت المرشدة كلمات قليلة في دفتر: "حدود. احتياجات. مسؤولية الذات. زمن للشفاء." لم تكن شعارات؛ كانت مثل مفاتيح تُجربها في باب عالق.


بدأت ياسمين علاجها ببطء. كتبت كل صباح جملة واحدة: "ماذا أحتاج اليوم؟" في اليوم الأول، كتبت: "نومًا." في الثاني: "هدوءًا بلا هاتف." في الثالث: "ألا أبرر." علّقت ورقة على المرآة: "لا أنقذ، لا أشرح، لا أبرر، لا ألاحق." عندما اتصل سالم ثلاث مرات في ساعة، لم تُجب. دق قلبها بسرعة حتى شعرت أنها تسمع صوته في صدرها، لكنّها جلست على الأرض تتنفس كما علّمتها المرشدة: شهيق أربع عدّات، حبس سبع، زفير ثمانٍ. العدّ كان مثل جسر ضيق، لكنها عبرته.


في الأسبوع التالي، استيقظت على رسالة طويلة من سالم: "أخشى عليكِ من الضياع. الناس يتحدثون. لا أريدكِ أن تُحرجيني." كادت تُسرع لتشرح. توقفت. كتبت جملة واحدة: "أنا بخير، وسأتحدث حين أكون جاهزة." أرسلتها كما يُلقى حجر صغير في بئر عميق.


دعتها سارة إلى بيت العائلة لترى "تعديلات الديكور". كانت اللوحة هناك، ما تزال في الإطار الذهبي، لكن شيئًا في داخلها تغيّر: لون الخلفية مُلطّف، حيادي أكثر. همست سارة: "مصممة الديكور طلبت من عامل أن يخفف اللون ليتناسب مع الستائر. لم أستطع إيقافهم." شعرت ياسمين بطعنة هادئة. لم تعد المسألة ذوقًا، بل تعديًا. قالت بصوت رخيم يتدرّب على الصرامة: "لوحتي لا تُقصّ لتلائم ستارة."


في المركز العلاجي، تحدثت المرشدة عن "دائرة الاعتمادية": الإنقاذ، الغضب، الذنب، العودة. أشارت بقلمها: "نقطع الدائرة عند الإنقاذ. لا تنزلي لإطفاء حريقه إن لم يُمسك بدلوه." ضحكت المجموعة، لكن ياسمين فهمت. في المساء، كتبت في دفترها: "ليس دوري أن أكون مطفأة حرائق أحد." ووضعت خطة بسيطة سمّتها "خطة الأمان": ثلاث أسماء يمكن الاتصال بها بدلًا من الرجوع إلى سالم، تمرين تنفس، وورقة صغيرة في محفظتها تُذكرها بسؤال واحد: "هل أوافق بدافع الحب، أم خوفًا من الهجر؟"


اتصل سالم لاحقًا يدعوها إلى عشاء "نتحدّث فيه مثل الكبار." جاءت. كانت مستعدة أن تُنصت وأن تتكلم. جلسا قبالة بعضهما. قال بجدية: "أحبكِ. لكنّك تتركيننا وقت العواصف." قالت بهدوء: "كنتُ عاصفة على نفسي لوقت طويل. الآن أتعلم أن أكون شاطئًا." ابتسم بسخرية خفيفة: "شِعر؟" تابعت: "أحبك بطريقة لا تُلغي اسمي. لن أترك عملي ولا رسمي. لن أقبل شروطًا على خاتم." قال، وقد ضاقت عيناه: "هذه أفكار المركز؟ يغسلون دماغك." ردّت: "يغسلون خوفًا فقط." وضعت على الطاولة ورقة صغيرة: "قواعدي: لا إهانات، لا تحكم في وقتي، لا تقليل من فني. نتحدث حين يهدأ كلانا. وإلا، لن نكمل."


بدا وكأنه يزن ما قالته بميزان لا يقيس إلا الفقد والمكسب. حاول ضحكة استرضاء: "اشتري كل لوحاتك ونضعها في بيتنا. تدعمني؟ أدعمك." التفتت ياسمين إلى النافذة، إلى انعكاسها الذي صار أكثر وضوحًا. قالت: "لوحاتي ليست أثاثًا." صمت. لم يُفلح سحر نبرته هذه المرة. عرف كلاهما أن شيئًا في التوازن القديم قد انكسر.


بعد أسبوعين، اتفقت مع صاحب مقهى صغير على معرض بعنوان "وجوه بلا إطار". خمس لوحات لنساء يضحكن بألم ولا يعتزلن الفرح، وسادسة لامرأة تُشبهها: عينان أقل خوفًا، توقيع صغير في الزاوية واضح كنبض. امتلأ المقهى على قدر تواضعه. جاءت سارة تحمل الإطار الخشبي القديم كما لو أنه إناء ماء في صحراء. علّقتاه معًا، وكانت تلك الحركة وحدها علاجًا.


وصل سالم ومعه باقة ورد كبيرة ونظرة إنقاذ أخيرة. وقف يُمعن النظر، ثم قال بصوت عام متمكّن: "عظيم. آخذها كلها. تبقى معكِ... معنا." تقدمت ياسمين خطوة. لم ترفع صوتها، لكنه وصل: "الفن لا يُحتجز بدعوى الحماية." سعل الهواء. قال سالم: "إذن واحدة على الأقل. هذه بعينين واسعتين." نظرت إلى اللوحة، ثم إليه: "هذه ليست للبيع." أدرك فجأة أن مساحته تقلّصت. حاول أن يجد اسماً لما يجري: "عناد؟" هزّت رأسها: "حدود."


لم تسقط القاعة في تصفيق ولا في صمت درامي. كان هناك ضجيج أكواب، ونادلة تتعثر وتضحك، وطفل يطلب قطعة كعك. الحياة تمضي، وهذا كان أجمل ما في المشهد. وضع سالم الباقة على طاولة قريبة، بدا أصغر ببضعة سنتيمترات. قال بصوت لا يسمعه إلا هي: "لا أعرفكِ هكذا." أجابت: "بل تعرفني أخيرًا." لم يعتذر ولم يهاجم. استدار ومضى. لم تكن هزيمة. كان بدايةً له أيضًا، إن أرادها.


في الليل، كتبت ياسمين رسالة بريدية: "أؤكد قبولي للمنحة." ضغطت "إرسال" وسمعت في قلبها نقرة صغيرة كفتح قفل قديم. جلست وسارة على الأرض، ظهرهما إلى الحائط، يضحكان على أشياء لا قيمة لها. قالت سارة: "لو سافرتِ، سأتصل لأطمئن، لا لأسمح." ضحكتا. على الحائط، كانت اللوحة بعينين واسعتين تتلقى الضوء الأول من نافذة لم تُغلق.


التعافي لم يكن سهلًا. في صباح السفر، شعرت برغبة مفاجئة في الاتصال بسالم "للاطمئنان." أخرجت الورقة من محفظتها: "هل أوافق بدافع الحب، أم خوفًا من الهجر؟" قرأت السؤال كأنها تتلو آية نجاة. أغلقت الهاتف، حملت حقيبتها، ومشت نحو باب المطار. الخوف كان يمشي بجانبها، لكنه هذه المرة لم يقدّم نفسه دليلًا. كانت هي الدليل.


على مقعد الطائرة قرب النافذة، أخرجت دفترها الصغير وكتبت: "اليوم أحتاج إلى شجاعة تكفي لعبور سحابة." نظرت إلى الورقة، ووقّعت أسفلها توقيعًا واضحًا. لم تسعه ابتسامة كبيرة، لكنه كان توقيعًا كاملًا خارج أي إطار.


© جميع الحقوق محفوظة – مدونة [alsarrad]، 2025. يُسمح بالاقتباس القصير مع ذكر المصدر والرابط المباشر إلى المصدر الأصلي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot